فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثانية: أنه احتيج إليها في بعض المواضع لأن تكون جنة يقوى بها ما سواها من الأعضاء بمنزلة قحف الرأس وعظام الصدر، وما كان كذلك فيجب أن يكون صلبًا ليكون صبورًا على ملاقاة الآفات بعيدًا من القبول لها إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان العظم أصلب الأعضاء فمتى وصل الأمر إلى ضعفها كان ضعف ما عداها مع رخاوتها أولى، ولأن العظم إذا كان حاملًا لسائر الأعضاء كان تطرق الضعف إلى الحامل موجبًا لتطرقه إلى المحمول فلهذا السبب خص العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء وأما أثر الضعف في الظاهر فذلك استيلاء الشيب على الرأس فثبت أن هذا الكلام يدل على استيلاء الضعف على الباطن والظاهر وذلك مما يزيد الدعاء توكيدًا لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة.
المقام الثاني: أنه ما كان مردود الدعاء ألبتة ووجه التوسل به من وجهين: أحدهما: ما روي أن محتاجًا سأل واحدًا من الأكابر وقال: أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا، فقال: مرحبًا بمن توسل بنا إلينا ثم قضى حاجته.
وذلك أنه إذا قبله أولا فلو أنه رده ثانيًا لكان الرد محبطًا للأنعام الأول والمنعم لا يسعى في إحباط أنعامه.
والثاني: وهو أن مخالفة العادة شاقة على النفس فإذا تعود الإنسان إجابة الدعاء فلو صار مردودًا بعد ذلك لكان في غاية المشقة ولأن الجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشق فقال زكرياء عليه السلام إنك ما رددتني في أول الأمر مع أني ما تعودت لطفك وكنت قوي البدن قوي القلب فلو رددتني الآن بعد ما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لكان ذلك بالغًا إلى الغاية القصوى في ألم القلب، واعلم أن العرب تقول سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب ولم ينلها ومعنى بدعائك أي بدعائي إياك فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى.
المقام الثالث: بيان كون المطلوب منتفعًا به في الدين وهو قوله: {وَإِنّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَائِى} وفيه أبحاث: الأول: قال ابن عباس والحسن: إني خفت الموالي أي الورثة من بعدي وعن مجاهد العصبة وعن أبي صالح الكلالة وعن الأصم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو هاهنا من يقوم بميراثه مقام الولد، والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب فإنه كان متعينًا في الحياة.
الثاني: اختلفوا في خوفه من الموالي فقال بعضهم: خافهم على إفساد الدين، وقال بعضهم بل خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال وغيره مع أنه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام بذلك المنصب، وفيه قول ثالث وهو أنه يحتمل أن يكون الله تعالى قد اعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبي له أب إلا واحد فخاف أن يكون ذلك من بني عمه إذ لم يكن له ولد فسأل الله تعالى أن يهب له ولدًا يكون هو ذلك النبي، وذلك يقتضي أن يكون خائفًا من أمر يهتم بمثله الأنبياء وإن لم يدل على تفصيل ذلك.
ولا يمتنع أن زكرياء كان إليه مع النبوة السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما.
أما قوله: {وَإِنّي خِفْتُ} فهو وإن خرج على لفظ الماضي لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضًا، كذلك يقول الرجل قد خفت أن يكون كذا وخشيت أن يكون كذا أي أنا خائف لا يريد أنه قد زال الخوف عنه وهكذا قوله: {وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا} أي أنها عاقر في الحال وذلك لأن العاقر لا تحول ولودًا في العادة ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك وغرض زكرياء من هذا الكلام بيان استبعاد حصول الولد فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى وإلى هذا يرجع الأمر في قوله: وإني خفت الموالي من ورائي لأنه إنما قصد به الإخبار وعن تقادم الخوف ثم استغنى بدلالة الحال وما يوجب مسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال وأيضًا فقد يوضع الماضي مكان المستقبل وبالعكس قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أأنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] والله أعلم وأما قوله: {من ورائي} ففيه قولان: الأول: قال أبو عبيدة أي قدامي وبين يدي وقال آخرون أي بعد موتي وكلاهما محتمل فإن قيل كيف خافهم من بعده وكيف علم أنهم يبقون بعده فضلًا من أن يخاف شرهم؟ قلنا: إن ذلك قد يعرف بالأمارات والظن وذلك كاف في حصول الخوف فربما عرف ببعض الإمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد والشر واختلف في تفسير قوله: {فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا} فالأكثرون على أنه طلب الولد وقال آخرون بل طلب من يقوم مقامه ولدًا كان أو غيره والأقرب هو الأول لثلاثة أوجه.
الأول: قوله تعالى في سورة آل عمران حكاية عنه: {قَالَ رَبّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً} [آل عمران: 38].
والثاني: قوله في هذه السورة: {هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ}.
والثالث: قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا} [الأنبياء: 89] وهذا يدل على أنه سأل الولد لأنه قد أخبر في سورة مريم أن له موالي وأنه غير منفرد عن الورثة وهذا وإن أمكن حمله على وارث يصلح أن يقوم مقامه لكن حمله على الولد أظهر واحتج أصحاب القول الثالث بأنه لما بشر بالولد استعظم على سبيل التعجب فقال أنى يكون لي غلام ولو كان دعاؤه لأجل الولد لما استعظم ذلك.
الجواب: أنه عليه السلام سأل عما يوهب له أيوهب له وهو وامرأته على هيئتهما أو يوهب بأن يحولا شابين يكون لمثلهما ولد؟ وهذا يحكي عن الحسن وقال غيره إن قول زكرياء عليه السلام في الدعاء: {وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا} إنما هو على معنى مسألته ولدًا من غيرها أو منها بأن يصلحها الله للولد فكأنه عليه السلام قال إني أيست أن يكون لي منها ولد فهب لي من لدنك وليًا كيف شئت إما بأن تصلحها فيكون الولد منها أو بأن تهب لي من غيرها فلما بشر بالغلام سأل أيرزق منها أو من غيرها فأخبر بأنه يرزق منها واختلفوا في المراد بالميراث على وجوه:
أحدها: أن المراد بالميراث في الموضعين هو وراثة المال وهذا قول ابن عباس والحسن والضحاك.
وثانيها: أن المراد به في الموضعين وراثة النبوة وهو قول أبي صالح.
وثالثها: يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوة وهو قول السدي ومجاهد والشعبي وروي أيضًا عن ابن عباس والحسن والضحاك.
ورابعها: يرثني العلم ويرث من آل يعقوب النبوة وهو مروي عن مجاهد واعلم أن هذه الروايات ترجع إلى أحد أمور خمسة وهي المال ومنصب الحبورة والعلم والنبوة والسيرة الحسنة ولفظ الإرث مستعمل في كلها أما في المال فلقوله تعالى: {أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم وَأَمولَهُمْ} [الأحزاب: 27] وأما في العلم فلقوله تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الهدى وَأَوْرَثْنَا بَنِى إسرائيل الكتاب} [غافر: 53] وقال عليه السلام: «العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم». وقال تعالى: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودُ وسليمان عِلْمًا وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مّنْ عِبَادِهِ المؤمنين وَوَرِثَ سليمان دَاوُودُ} [النمل: 15، 16] وهذا يحتمل وراثة الملك ووراثة النبوة وقد يقال أورثني هذا غمًا وحزنًا، وقد ثبت أن اللفظ محتمل لتلك الوجوه.
واحتج من حمل اللفظ على وراثة المال بالخبر والمعقول أما الخبر فقوله عليه السلام: «رحم الله زكريا ما كان له من يرثه» وظاهره يدل على أن المراد إرث المال وأما المعقول فمن وجهين.
الأول: أن العلم والسيرة والنبوة لا تورث بل لا تحصل إلا بالاكتساب فوجب حمله على المال.
الثاني: أنه قال: {واجعله رَبّ رَضِيًّا} ولو كان المراد من الإرث إرث النبوة لكان قد سأل جعل النبي صلى الله عليه وسلم رضيًا وهو غير جائز لأن النبي لا يكون إلا رضيًا معصومًا، وأما قوله عليه السلام: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» فهذا لا يمنع أن يكون خاصًا به واحتج من حمله على العلم أو المنصب والنبوة بما علم من حال الأنبياء أن اهتمامهم لا يشتد بأمر المال كما يشتد بأمر الدين، وقيل لعله أوتي من الدنيا ما كان عظيم النفع في الدين فلهذا كان مهتمًا به أما قوله النبوة كيف تورث قلنا المال إنما يقال ورثه الابن بمعنى قام فيه مقام أبيه وحصل له من فائدة التصرف فيه ما حصل لأبيه وإلا فملك المال من قبل الله لا من قبل المورث فكذلك إذا كان المعلوم في الإبن أن يصير نبيًا بعده فيقوم بأمر الدين بعده جاز أن يقال ورثه أما قوله عليه السلام: «إنا معشر الأنبياء» فهذا وإن جاز حمله على الواحد كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] لكنه مجاز وحقيقته الجمع والعدول عن الحقيقة من غير موجب لا يجوز لاسيما وقد روي قوله: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث» والأولى أن يحمل ذلك على كل ما فيه نفع وصلاح في الدين وذلك يتناول النبوة والعلم والسيرة الحسنة والمنصب النافع في الدين والمال الصالح، فإن كل هذه الأمور مما يجوز توفر الدواعي على بقائها ليكون ذلك النفع دائمًا مستمرًا.
السابع: اتفق أكثر المفسرين على أن يعقوب هاهنا هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام لأن زوجة زكرياء هي أخت مريم وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب وأما زكرياء عليه السلام فهو من ولد هرون أخى موسى عليه السلام وهرون وموسى عليهما السلام من ولد لاوى بن يعقوب بن إسحق وكانت النبوة في سبط يعقوب لأنه هو إسرائيل صلى الله عليه وسلم وقال بعض المفسرين ليس المراد من يعقوب هاهنا ولد إسحق بن إبراهيم عليه السلام بل يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكرياء وهذا قول الكلبي ومقاتل.
وقال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رأس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم، واعلم أنهم ذكروا في تفسير الرضى وجوهًا.
أحدها: أن المراد واجعله رضيًا من الأنبياء وذلك لأن كلهم مرضيون فالرضي منهم مفضل على جملتهم فائق لهم في كثير من أمورهم فاستجاب الله تعالى له ذلك فوهب له سيدًا وحصورًا ونبيًا من الصالحين لم يعص ولم يهم بمعصية، وهذا غاية ما يكون به المرء رضيًا.
وثانيها: المراد بالرضي أن يكون رضيًا في أمته لا يتلقى بالتكذيب ولا يواجه بالرد.
وثالثها: المراد بالرضي أن لا يكون متهمًا في شيء ولا يوجد فيه مطعن ولا ينسب إليه شيء من المعاصي.
ورابعها: أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام قالا في الدعاء: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 182] وكانا في ذلك الوقت مسلمين، وكأن المراد هناك ثبتنا على هذا أو المراد اجعلنا فاضلين من أنبيائك المسلمين فكذا هاهنا واحتج أصحابنا في مسألة خلق الأفعال بهذه الآية لأنه إنما يكون رضيًا بفعله، فلما سأل الله تعالى جعله رضيًا دل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى.
فإن قيل: المراد منه أن يلطف له بضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضيًا فينسب ذلك إلى الله تعالى.
والجواب من وجهين: الأول: أن جعله رضيًا لو حملناه على جعل الألطاف وعندها يصير المرء باختياره رضيًا لكان ذلك مجازًا وهو خلاف الأصل.
والثاني: أن جعل تلك الألطاف واجبة على الله تعالى لا يجوز الإخلال به وما كان واجبًا لا يجوز طلبه بالدعاء والتضرع. اهـ.

.قال الجصاص:

قَالَ اللَّهُ تعالى: {إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}.
فَمَدَحَهُ بِإِخْفَاءِ الدُّعَاءِ، وَفِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إخْفَاءَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْجَهْرِ بِهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْله تعالى: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَرَوَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي».
وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يَدْعُوَ الْإِمَامُ فِي الْقُنُوتِ وَيُؤَمِّنَ مَنْ خَلْفَهُ، وَكَانَ لَا يُعْجِبُهُ رَفْعَ الْأَصْوَاتِ.
وَرَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى قَوْمًا قَدْ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالدُّعَاءِ فَقَالَ: إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا إنَّ الَّذِي تَدْعُونَهُ أَقْرَبُ إلَيْكُمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ».
قَوْله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي}.
رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَالسُّدِّيِّ: أَنَّ الْمَوَالِيَ الْعُصْبَةُ وَهُمْ بَنُو أَعْمَامِهِ، خَافَهُمْ عَلَى الدِّينِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا شِرَارَ بَنِي إسْرَائِيلَ.
قَوْله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} سَأَلَ اللَّهَ عزّ وجلّ أَنْ يَرْزُقَهُ وَلَدًا ذَكَرًا يَلِي أُمُورَ الدِّينِ وَالْقِيَامَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِخَوْفِهِ مِنْ بَنِي أَعْمَامِهِ عَلَى تَبْدِيلِ دِينِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةُ عَنْ الْحَسَنِ فِي قَوْله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: (نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ).
وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: (كَانَ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ وَلَدٌ فَسَأَلَ رَبَّهُ الْوَلَدَ فَقَالَ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ)، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ مِثْلُهُ.
فَذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يَرِثُ الْمَالَ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ فَقَدْ أَجَازَ إطْلَاقَ اسْمِ الْمِيرَاثِ عَلَى النُّبُوَّةِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَعْنِيَ بِقَوْلِهِ: {يَرِثُنِي} يَرِثُ عِلْمِي.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ»، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كُونُوا عَلَى مَشَاعِرِكُمْ يَعْنِي بِعَرَفَاتٍ فَإِنَّكُمْ عَلَى إرْثٍ مِنْ إرْثِ إبْرَاهِيمَ».
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: {لَا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ}.
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَنْشُدُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ: أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي بِهِ تَقُومُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ» فَقَدْ ثَبَتَ بِرِوَايَةِ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يُوَرِّثُونَ الْمَالَ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَرِيَّا لَمْ يُرِدْ بِقوله: {يَرِثُنِي} الْمَالَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْسَفَ عَلَى مَصِيرِ مَالِهِ بَعْدِ مَوْتِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَأَنَّهُ إنَّمَا خَافَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ بَنُو أَعْمَامِهِ عَلَى عُلُومِهِ وَكِتَابِهِ فَيُحَرِّفُونَهَا وَيَسْتَأْكِلُونَ بِهَا فَيُفْسِدُونَ دِينَهُ وَيَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْهُ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّك عَبْدَهُ زَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأُولَى:
هَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ: {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}.
وَقَدْ رَوَى سَعْدٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: {خَيْرُ الذِّكْرِ الْخَفِيُّ وَخَيْرُ الرِّزْقِ مَا يَكْفِي} وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ مِنْ الرِّيَاءِ، فَأَمَّا دُعَاءُ زَكَرِيَّا فَإِنَّمَا كَانَ خَفِيًّا، وَهِيَ:
المسألة الثَّانِيَةُ:
لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ لَيْلًا.
وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي دُعَائِهِ أَحْوَالًا تَفْتَقِرُ إلَى الْإِخْفَاءِ، كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي.
وَهَذَا مِمَّا يُكْتَمُ وَلَا يُجْهَرُ بِهِ، وَقَدْ أَسَرَّ مَالِكٌ الْقُنُوتَ، وَجَهَرَ بِهِ الشَّافِعِيُّ، وَالْجَهْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِهِ جَهْرًا حَسْبَمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا}.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الأُولَى:
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةَ مَعَانٍ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ وَالْحَدِيثِ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا الْوَارِثُ، وَابْنُ الْعَمِّ.
وَلَمْ يَخَفْ زَكَرِيَّا إرْثَ الْمَالِ، وَلَا رَجَاهُ مِنْ الْوَلَدِ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ إرْثَ النُّبُوَّةِ، وَعَلَيْهَا خَافَ أَنْ تَخْرُجَ عَنْ عَقِبِهِ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ».
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: «إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا».
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
رَجَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ فِي الْوَلَدِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَعَاهُ لِإِظْهَارِ دِينِهِ، وَإِحْيَاءِ نُبُوَّتِهِ، وَمُضَاعَفَةِ أَجْرِهِ، فِي وَلَدٍ صَالِحٍ نَبِيٍّ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَسْأَلْهُ لِلدُّنْيَا.
الثَّانِي: لِأَنَّ رَبَّهُ كَانَ قَدْ عَوَّدَهُ الْإِجَابَةَ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}.
وَهَذِهِ وَسِيلَةٌ حَسَنَةٌ أَنْ يَتَشَفَّعَ إلَيْهِ بِنِعَمِهِ، وَيَسْتَدِرَّ فَضْلَهُ بِفَضْلِهِ.
يُرْوَى أَنَّ حَاتِمَ الْجَوَادَ لَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ حَاتِمٌ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا الَّذِي أَحْسَنْت إلَيْهِ عَامَ أَوَّلٍ.
قَالَ: مَرْحَبًا بِمَنْ تَشَفَّعَ إلَيْنَا بِنَا. اهـ.